الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وفي المصباح الأمل ضد اليأس وأكثر ما يستعمل فيما يبعد حصوله والطمع يكون فيما قرب حصوله والرجاء بين الأمل والطمع فإن الراجي يخاف أن لا يحصل مأموله ولذا استعمل بمعنى الطمع انتهى، وفسره أبو عبيدة.وقوم بالخوف، وقال الفراء: هذه الكلمة تهامية وهي أيضًا من لغة هذيل إذا كان مع الرجاء جحد ذهبوا به إلى معنى الخوف فيقولون: فلان لا يرجو ربه سبحانه يريدون لا يخاف ربه سبحانه، ومن ذلك {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13] أي لا تخافون لله تعالى عظمة وإذا قالوا: فلان يرجو ربه فهذا على معنى الرجاء لا على معنى الخوف، وقال الشاعر:
وقال آخر: انتهى.وذكر أن استعمال الرجاء في معنى الخوف مجاز لأن الراجي لأمر يخاف فواته، وأصل اللقاء مقابله الشيء ومصادفته وهو مراد من قال: الوصول إلى الشيء لا المماسة ويطلق على الرؤية لأنها وصول إلى المرئي، ولقاؤه تعالى هنا كناية عن لقاء جزائه يوم القيامة أو المراد ذلك بتقدير مضاف؛ والمعنى على التفسير المشهور للرجاء وقال الذين لا يأملون لقاء جزائنا بالخير والثواب على الطاعة لتكذيبهم بالبعث، وعلى التفسير الآخر وقال الذين لا يخافون لقاء جزائنا بالشر والعقاب على المعصية لتكذيبهم بالبعث كذا قيل.وقيل المراد به رؤيته تعالى في الآخرة والرجاء عليه بمعنى الأمل دون الخوف إذ لا معنى لكون الرؤية مخوفة وهو خلاف الظاهر وإن لم يأبه ما بعد إذ يكون المعنى عليه إن الذين لا يرجون رؤيتنا في الآخرة التي هي مظنة الرؤية لكثير من الناس اقترحوا رؤيتنا في الدنيا التي ليست مظنة لذلك، وقد يقال: نفي رجاء لقائه تعالى كناية عن إنكار البعث والحشر ولعله أولى مما تقدم أي وقال الذين ينكرون البعث والحشر {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الملائكة} أي هلا أنزلوا علينا فيخبرونا بصدق محمد صلى الله عليه وسلم {أَوْ نرى رَبَّنَا} فيخبرنا بذلك كما روي عن ابن جريج وغيره وفي طلب إنزال ملائكة للتصديق دون إنزال ملك إشارة إلى أنهم بلغوا في التكذيب مبلغًا لا ينفع معه تصديق ملك واحد وإذا اعتبرت أل في الملائكة للاستغراق الحقيقي كانت الإشارة إلى قوة تكذيبهم أقوى، وتزداد القوة إذا اعتبر في {عَلَيْنَا} معنى كل واحد منا ولم يعتبر توزيع، ويشير أيضًا إلى قوة ذلك تعبيرهم بالمضارع الدال على الاستمرار التجددي في أو {نرى رَبَّنَا} كأنهم لم يكتفوا برؤيته تعالى وإخباره سبحانه بصدق رسوله صلى الله عليه وسلم حتى يروه سبحانه ويخبرهم مرارًا بذلك، ولا يأبى قصد الاستمرار من المضارع كون الأصل في {لَوْلاَ} التي للتحضيض أو العرض أن تدخل على المضارع وما لم يكن مضارعًا يؤول به، ولعل عدولهم إلى الماضي في جانب إنزال الملائكة المعطوف عليه وإن كان في تأويل المضارع على نحو ما قدمنا في تفسير قوله تعالى: {لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ} فتذكر فما في العهد من قدم.وقيل: المعنى لولا أنزل علينا الملائكة فيبلغون أمر الله تعالى ونهيه بدل محمد صلى الله عليه وسلم أو نرى ربنا فيخبرنا بذلك من غير توسيط أحد.ورجح الأول بأن السياق لتكذيبه صلى الله عليه وسلم وحاشاه ثم حاشاه من الكذب والتعنت في طلب مصدق له عليه الصلاة والسلام لا لطلب من يفيدهم الأمر والنهي سواه صلى الله عليه وسلم، ولا نسلم أن {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الملائكة} يتكرر عليه مع {لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ} [الفرقان: 7] السابق لظهور الفرق بين المطلوبين بين فيهما ولو فرض لزوم التكرار بينهما فهو لا يضر كما لا يخفى.وانتصر للأخير بأن المقام ليس إلا لذكر المكذبين وحكاية أباطيلهم الناشئة عن تكذيبهم.وقد عد فيما سبق بعضًا منها متضمنًا تعنتهم في طلب مصدق له صلى الله عليه وسلم فالأولى أن يكون ما هنا حكاية نوع آخر منها ليكون أبعد عن التكرار وأدل على العناد والاستكبار.ولعل قوله تعالى: {لَقَدِ استكبروا في أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} أنسب بما ذكر.ومعنى {استكبروا في أَنفُسِهِمْ} أوقعوا الاستكبار في شأنها وعدوها كبيرة الشأن، وفيه تنزيل الفعل المتعدي منزلة اللازم كما في قوله: والعتو تجاوز الحد في الظلم وهو المصدر الشائع لعتا، واللام واقعة في جواب القسم أي والله لقد استكبروا في شأن أنفسهم وتجاوزوا الحد في الظلم والطغيان تجاوزًا كبيرًا بالغًا أقصى غايته حيث كذبوا الرسول عليه الصلاة والسلام ولم ينقادوا لبشر مثلهم يوحى إليه في أمرهم ونهيهم ولم يكترثوا بمعجزاته القاهرة وآياته الباهرة فطلبوا ما لا يكاد يرنوا إليه أحداق الأمم وراموا ما لا يحظى به إلا بعض أولي العزم من الرسل صلى الله عليه وسلم.وقد فسر {استكبروا في أَنفُسِهِمْ} بأضمروا الاستكبار وهو الكفر والعناد في قلوبهم وهو أظهر مما تقدم وما تقدم أبلغ وأوفق لما انتصر له.وكذا فسر العتو بالنبو عن الطاعة وما تقدم أبلغ وأوفق بذلك أيضًا.وفي تعقيب حكاية باطل أولئك الكفرة بالجملة القسمية إيذان بغاية قبح ما هم عليه وإشعار بالتعجب من استكبارهم وعتوهم وهو من الفحوى في الحقيقة ومثل ذلك شائع في الكلام تقول لمن جنى جناية: فعلت كذا وكذا استعظامًا وتعجبًا منه؛ ويستعمل في سائر الألسنة وجعل الزمخشري من ذلك قول مهلهل: والطيبي قوله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً} [الكهف: 5]، وتعقب بأن ذلك ليس من هذا القبيل لأن الثلاثي المحول إلى فعل لفظًا أو تقديرًا موضوع للتعجب كما صرح به النحاة؛ وذكر الإمام مختار القول الأول في تفسير {لَوْلا أُنزِلَ} الخ أن هذه الجملة جواب لقولهم {لَوْلا أُنزِلَ} الخ من عدة أوجه، أحدها: أن القررن لما ظهر كونه معجزًا فقد ثبتت نبوته صلى الله عليه وسلم فبعد ذلك لا يكون اقتراح هذه الآيات إلا محض استكبار.وثانيها: أن نزول الملائكة عليهم السلام لو حصل لكان أيضًا من جملة المعجزات ولا يدل على الصدق لخصوص كونه نزول الملك بل لعموم كونه معجزًا فيكون قبول ذلك ورد الآخر ترجيحًا لأحد المثلين من غير مرجح.وثالثها: أنهم بتقدير رؤية الرب سبحانه وتصديقه لرسوله صلى الله عليه وسلم لا يستفيدون علمًا أزيد من تصديق المعجز إذ لا فرق بين أن يقول النبي: اللهم إن كنت صادقًا فأحي هذا الميت فيحييه عز وجل وبين أن يقول: إن كنت صادقًا فصدقني فيصدقه فتعيين أحد الطريقين محض العناد، ورابعها: أن العبد ليس له أن يعترض على مولاه إما بحكم المالكية عند الأشعري أو بحكم المصلحة عند المعتزلي، وخامسها: أن السائل الملح المعاند الذي لا يرضى بما ينعم عليه مذموم وإظهار المعجز من جملة الأيادي الجسيمة فرد إحداهما واقتراح الأخرى ليس من الأدب في شيء.وسادسها: لعل المراد أني لو علمت أنهم ليسوا مستكبرين وعاتين لأعطيتهم مطلوبهم لكني علمت أنهم إنما سألوا لأجل المكابرة والعناد فلا جرم لا أعطيهم، وسابعها: لعلهم عرفوا من أهل الكتاب أن الله تعالى لا يرى في الدنيا وأنه لا ينزل الملائكة عليهم السلام على عوام الخلق ثم أنهم علقوا إيمانهم على ذلك فهم مستكبرون ساخرون انتهى وفيه ما لا يخلو عن بحث.واستدلت الأشاعرة بقوله تعالى: {لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا} على أن رؤية الله تعالى ممكنة.واستدلت المعتزلة بقوله سبحانه: {لَقَدِ استكبروا وَعَتَوْا} على أنها ممتنعة ولا يخفى ضعف الاستدلالين.{يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة} استئناف مسوق لبيان ما يلقونه عند مشاهدة الملائكة عليهم السلام بعد استعظام طلبهم إنزالهم عليهم وبيان كونه في غاية الشناعة.وإنما قيل: يوم يرون دون أن يقال يوم تنزل الملائكة إيذانًا من أول الأمر بأن رؤيتهم لهم ليست على طريق الإجابة إلى ما طلبوه بل على وجه آخر لم يمر ببالهم.{وَيَوْمَ} منصوب على الظرفية بما يدل عليه قوله تعالى: {لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لّلْمُجْرِمِينَ} فإنه في معنى لا يبشر يومئذٍ المجرمون والعدول إلى نفي الجنس للمبالغة في نفي البشرى فكأنه قيل لا يبشرون يوم يرون الملائكة، وقدر بعضهم يمنعون البشرى أو يفقدونها والأول أبعد من احتمال توهم تهوين الخطب، وقدر بعضهم لا بشرى قبل يوم وجعله ظرفًا لذلك، وجوز أبو البقاء تعلقه بيعذبون مقدرًا لدلالة {لاَ بشرى} الخ عليه وكونه معمولًا لا ذكر مقدرًا قال: أبو حيان وهو أقرب.وقال صاحب الفرائد: يمكن أن يكون منصوبًا بينزل مضمرًا لقولهم: {لولا أنزل علينا الملائكة} [الفرقان: 21] كأنه قيل ينزل الملائكة يوم يرونهم، ولا يقال: كيف يكون وقت الرؤية وقتًا للإنزال لأنا نقول: الظرف يحتمل ذلك لسعته واستحسنه الطيبي فقال هو قول لا مزيد عليه لأنه إذا انتصب بينزل يلتئم الكلامان لأن قوله تعالى: {يَوْمَ يَرَوْنَ} الخ نشر لقوله تعالى: {لَوْلا أُنزِلَ} [الفرقان: 21] الخ، وقوله سبحانه: {وَقَدِمْنَا} [الفرقان: 23] نشر لقوله عز وجل: {أَوْ نرى رَبَّنَا} [الفرقان: 21] ولم يجوز الأكثرون تعلقه ببشرى المذكور لكونه مصدرًا وهو لا يعمل متأخرًا وكونه منفيًا بلا ولا يعمل ما بعدها فيما قبلها.{وَيَوْمَئِذٍ} تأكيد للأول أو بدل منه أو خبر {وللمجرمين} تبيين متعلق بمحذوف كما في سقيا له أو خبر ثان أو هو ظرف لما يتعلق به اللام أو لبشرى إن قدرت منونة غير مبنية مع لا فإنها لا تعمل إذ لو عمل اسم لا طال وأشبه المضاف فينتصب.وفي البحر احتمل بشرى أن يكون مبنيًا مع لا واحتمل أن يكون في نية التنوين منصوب اللفظ ومنع من الصرف للتأنيث اللازم فإن كان مبنيًا لا احتمل أن يكون الخبر {فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ} وللمجرمين خبر بعد خبر أو نعت لبشرى أو متعلق بما تعلق به الخبر، وأن يكون {يَوْمَئِذٍ} صفة لبشرى والخبر {لّلْمُجْرِمِينَ} ويجىء خلاف سيبويه والأخفش هل الخبر لنفس لا أو للمبتدأ الذي هو مجموع ولا ما بنى معها.وإن كان في نية التنوين وهو معرب جاز أن يكون {يَوْمَئِذٍ} معمولًا لبشرى وأن يكون صفة والخبر {لّلْمُجْرِمِينَ}، وجاز أن يكون {يَوْمَئِذٍ} خبرًا {وللمجرمين} صفة، وجاز أن يكون {فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ} خبر أو {لّلْمُجْرِمِينَ} خبرًا بعد خبر والخبر إذا كان الاسم ليس مبنيًا للا نفسها بالإجماع.وقال الزمخشري: يومئذٍ تكرير ولا يجوز ذلك سواء أريد بالتكرير التوكيد اللفظي أم أريد به البدل لأن {يَوْمٍ} منصوب بما تقدم ذكره من أذكر أو من يفقدون وما بعد لا العاملة في الاسم لا يعمل فيه ما قبلها وعلى تقديره يكون العامل فيه ما قبلها انتهى.ولا يخفى عليك ما في الاحتمالات التي ذكرها.وأما ما اعترض به على الزمخشري فتعقب بأن الجملة المنفية معمولة لقول مضمر وقع حالًا من الملائكة التي هي معمول ليرون {ويرون} معمول ليوم فلا وما في حيزها من تتمة الظرف الأول من حيث أنه معمولًا لبعض ما في حيزه ومثله لا يعد محذورًا مع أن كون لا لها الصدر مطلقًا أو إذا بنى معها اسمها ليس بمسلم عند جميع النحاة لأنها لكثرة دورها خرجت عن الصدارة فتأمل، هذا ما وقفنا عليه للمتقدمين في إعراب الآية وما فيه من الجرح والتعديل.وقال بعض العصريين: يجوز تعلق {لايّ يَوْمٍ} بكبيرًا وتقييد كبره بذلك اليوم ليس لنفي كبره في نفسه بل لظهور موجبه في ذلك اليوم ونظيره لزيد علم عظيم يوم يباحث الخصوم وتكون جملة {لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لّلْمُجْرِمِينَ} استئنافًا لبيان ذلك وهو كما ترى، وأيًا ما كان فالمراد بذلك اليوم على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يوم الموت، وقال أبو حيان: الظاهر أنه يوم القيامة لقوله تعالى بعد: {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ} [الفرقان: 23] الخ وفيه نظر.ونفي البشرى كناية عن إثبات ضدها كما أن نفي المحبة في مثل قوله تعالى: {فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين} [آل عمران: 32] كناية عن البغض والمقت فيدل على ثبوت النذري لهم على أبلغ وجه، والمراد بالمجرمين أولئك الذين لا يرجون لقاءه تعالى، ووضع المظهر موضع ضميرهم تسجيلًا عليهم بالإجرام مع ما هم عليه من الكفر والعناد وإيذانًا بعلة الحكم، ومن اعتبر المفهوم في مثله ادعى إفادة الآية عدم تحقق الحكم في غيرهم، وقد دل قوله تعالى في حق المؤمنين: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ} [فصلت: 30] الخ على حصول البشرى لهم، وقيل: المراد بهم ما يعم العصاة والكفار الذين لا يرجون لقاءه تعالى، ويفيد الكلام سلب البشرى عن الكفار على أتم وجه لدلالته على أن المانع من حصول البشرى هو الإجرام ولا إجرام أعظم من إجرام الذين لا يرجون لقاءه عز وجل ويقولون ما يقولون فهم أولى به.
|